عوامل كثيرة أدت إلى شعور الشباب بالعزلة في الدنمارك، منها التطور
التكنولوجي وانشغال الأهل، الأمر الذي يحذّر منه الخبراء.
تُشير دراسات دنماركيّة معنيّة بأوضاع الشباب إلى ارتفاع نسبة مشاعر الوحدة
والعزلة بين 20 و25 في المائة من هذه الفئة من الجنسين. ويخشى متخصصون
في أوضاع القصّر الدنماركيين أن تؤدي العزلة إلى مشاكل كثيرة، من إيذاء الذات
والابتعاد أكثر فأكثر عن المجتمع.
وبحسب دراسة حديثة بعنوان “البحث عن الفضاء الحر ــ آفاق الحياة اليومية
للشباب والمجتمعات المحلية”، أشرف عليها الباحث ومدير مركز دراسات الشبا
الدنماركي، سورن أوسترغاورد، فإن واحدا من كل 6 يشعرون بأنهم وحيدون ف
مجتمعهم، إضافة إلى تزايد أعداد الشباب الذين يشعرون بأنهم لا يتحدثون إلى
بالغين باستثناء أهلهم. ويشعر بعض الشباب الدنماركي أنهم متروكون وحدهم
في ظل تسارع نمط الحياة اليومية من حولهم. كما يجد هؤلاء صعوبة في
الاتصال بمراكز المساعدة للخروج من عزلتهم، ما يتركهم في دائرة مغلقة من
الوحدة والصمت. وصدرت الدراسة في 27 أغسطس/آب الماضي بمشاركة
الباحث سيمون هاوغورد، وشملت 2036 يافعاً في 20 مدرسة دنماركية،
خصوصاً بين تلاميذ الصف التاسع.
ويكشف الباحث أوسترغورد نتائج الدراسة قائلاً إن “17.6 في المائة من تلاميذ
الصف التاسع يشعرون بالوحدة، وهو رقم مضاعف بالمقارنة مع دراسة أعدّت
في عام 2016”. ويرى الباحثان أن ما يجري هو أننا “أمام جيل يعتقد أنه يجب أن
يعرف ويتحكم بالأمور. إلا أن كثيرين لا يشعرون بالتحكم بحياتهم لخوض نقاش مع
أحد، ويصعب عليهم معرفة ما يجب أن يكونوا عليه قبل انتقالهم إلى المرحلة
الثانوية والانخراط أكثر في المجتمع”.
وتُشير الدراسة إلى أنّ جيل الشباب يقضي أوقاته خارج المنزل والمدرسة. وفي
نهاية المطاف، فإنّه يعيش من دون أي تواصل مع بالغين. أما الكبار، فلا يعلمون
ما يدور في حياة الشباب، ولا يبدون اهتماماً لمعرفة الأمر.
وتُولي الدنمارك اهتماماً بأوضاع القصّر ورفاهيتهم وعدم تعرّضهم لعنف نفسي
وجسدي. وتتولّى مؤسّسات متخصصة متابعة أوضاع هؤلاء منذ مرحلة الطفولة.
ومن بين أشهر المؤسسات المعنية، يبرز دور منظمة “أوضاع الطفولة”، التي
أنشأت خطاً ساخناً لجميع الأطفال والقصّر الذين يحتاجون إلى مساعدة.
وبحسب مدير منظمة “أوضاع الطفولة” راسموس كييلدال، فإنّ أرقام الدراسة
الجديدة تشير إلى تزايد أعداد الذين يعيشون في عزلة ووحدة.
وكانت المنظمة قد أصدرت العام الماضي تقريرها الخاص حول أوضاع اليافعين
الدنماركيّين بعنوان “الوقوف خارج المجتمع”. ويرى كييلدال أن زيادة نسبة
المنعزلين عن المجتمع، بحسب الدراسة الجديدة، “أمر مخيف، وقد نفقد ما بين
20 و25 في المائة من الشباب، ويحتمل أن يعمد البعض إلى إيذاء نفسه تعبيراً
عن الاستياء”، مضيفاً أن الشعور بالوحدة بين الشباب تجاوز ما عليه الحال بين
المسنين. من هنا، يرى أنّه من الضروري إنشاء مشروع وطني يتضمن
استراتيجية لمكافحة الشعور بالوحدة. ويقول إنّ “كورونا فاقم الشعور بالعزلة.
وعموماً، فإنّ الحدّ من الوحدة مهمّة كبيرة تتجاوز عزلة كورونا، ولا يبدو أنّ الحلول
على الأبواب”.
ويعطي كييلدال أمثلة عن حالة العزلة المنتشرة بين اليافعين، قائلاً: “هؤلاء
الذين في سن الـ 15 اليوم بدأ شعورهم بالوحدة منذ كانوا في الثانية من
أعمارهم، وهو السن الذي يبدأ فيه الطفل بناء علاقة مع الأكبر سناً. ويجري حالياً
إثارة انتباه الأهل بالتعاون مع روضات الأطفال والمدارس الابتدائية، حول أهمية
ألا يشعر أبناؤهم بالتهميش والعزلة عن الكبار”.
ويقول كييلدال إن لعصر السرعة تأثيراً على علاقة فئة أساسية بمجتمعها،
“يفترض أن يهتم الأهل أكثر بأبنائهم والحديث معهم بدل تركهم يعيشون الوحدة
مع هواتفهم النقالة”. في هذا الإطار، يقول الباحث سورن أوسترغورد، المشارك
في الدراسة، إن الكبار من غير الوالدين، الذين يلعبون دوراً مهماً في تكوين
شخصية الأطفال، هم الأجداد، لافتاً إلى “وجوب تسليط الضوء على دورهم
لأهميته، خصوصاً أننا نلحظ تراجعاً حتى في تأثير أهالي أصدقاء اليافعين لدى
تبادل الزيارات. هنا، تساهم التقنيات الحديثة في خلق مساحة افتراضية وهمية
، ويصعب أن تجد من هم بعمر 15 عاماً يتحدثون مع أهالي زملائهم أو كبار السن
في الأحياء السكنية. ويؤكد الباحثون على أهمية تعزيز الروابط مع الكبار حين
يكون الطفل في المرحلة العمرية ما بين 3 و4 سنوات. وحين لا يكون هناك
متسع من الوقت لدى الكبار، يبدأ مسار الشعور بالوحدة”.
وفي دراسة صدرت عام 2015، وشملت أطفالا من الصف السابع والثامن
والتاسع أكدت وجود بالغين في حياتهم أكثر مما هو عليه الحال في الوقت
الحالي، وتراجعت النسبة بنحو الثلث خلال خمس سنوات. ويقول أوسترغورد إن
جيل هذه الأيام، وفي ظل غياب الكبار، يعتقد أنه بدلاً من الحديث مع من هم أكبر
سناً، كالأهل والجدين، يختار التوجه إلى “غوغل”. وكلما قلّ التواصل بين
الطرفين، لأن الكبار يقضون الوقت في الخارج، شعر اليافعون بعزلة “وعدم قدرة
على التواصل مع الكبار”.
وساهمت التقنيات الحديثة في تعزيز العزلة. وفي حين لا يتوقع اليافعون أن
يطرح الكبار أسئلة عليهم، فإن الكبار أنفسهم غير متأكدين من أدوارهم “لدرجة
أنهم يجدون صعوبة في تقديم المساعدة. وحتّى لو أن البالغين قد لا يملكون
إجابات على الأسئلة، من واجبهم التواصل مع الأبناء”. ويوضح أوسترغورد: “حين
نسأل بعض الأهل: هل تعرفون إذا ما كان أطفالكم يجدون بالغين للتحدث معهم؟
يصمتون ويأملون أن يكون هناك من يتحدث معهم في المدرسة، الأمر الذي يدل
على غياب في التواصل”. يتابع: “في بعض الأحيان، إذا ما أعرب مراهق عن
استيائه من التدريب في النادي على كرة القدم، يوافق الأهل من دون نقاشه
حول قراره وخلفيته”.
وينصح خبراء شاركوا في الدراسة حول العزلة بأن يدخل الأهل في حوار مع
الأبناء، “ولا ينبغي أن تصبح المحادثة استجواباً بل مساحة للتعبير عن المخاوف
حيال أمور غير مريحة تتعلق بتصرفات الأبناء. وقد تكون طاولة العشاء فرصة لفتح
نقاش بين الأهل والأبناء”.